minister1

 

طوال العقود الأربع الماضية، تراجعت المسيرة التعليمية في العراق بشكل خطير جراء السياسات التي اتبعتها أنظمة الاستبداد، وما خلفته من تراكمات سواء على صعيد بناء الإنسان أو على صعيد المجالات العلمية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

ودفع النظام التعليمي في العراق، بشكل خاص، ضريبة باهظة أفقدته القدرة على اللحاق بسائر بلدان العالم. وانسحبت جراء ذلك، الحياة العلمية في العراق الى مراتب متأخرة قياسا الى مجمل التطور العالمي في مجال العلوم والتكنولوجيا، خصوصا في السنوات الثلاثين الأخيرة التي خطا فيها العالم المتقدم خطوات هائلة باتجاه التطور الحضاري.

رغم ذلك، لم تكن السنوات الثمانية التي أعقبت سقوط نظام البعث كافية لتدارك ما لحق بالتعليم العالي من تداعيات، وقد لا تحمل السنوات الأربع القادمة في طياتها الحلول لكل المشاكل التي عانى ويعاني منها النظام التعليمي في العراق، لكنها بالتأكيد ستكون كافية لترسيخ المناهج الإصلاحية التي بدأنا بتطبيقها منذ اليوم الأول لتسلمنا مهام الوزارة، تمهيدا للوصول بالتعليم العالي في العراق الى مصاف الدولة المتقدمة.

الإستراتيجية التطويرية التي وضعتها الوزارة للسنوات الأربع القادمة، كمقدمة لتطبيق خطط تطويرية  أوسع تهدف الى الارتقاء بالواقع التعليمي في العراق، تستند على محاور أساسية لا يمكن من دونها ان نؤسس لبنية تعليمية صحيحة، ولا يمكن من دونها أيضا ان نتجاوز الإخفاقات التي أفرزتها الفترة الماضية.

الثقافة الجديدة التي نطرحها للتعليم العالي في العراق من خلال هذه الإستراتيجية، هي ملاءمة مخرجات التعليم العالي مع حاجات المجتمع، فلم يعد العراق بحاجة الى أن تتحول مخرجات التعليم العالي الى مجرد شهادات جامعية لا تصلح إلا للبحث عن وظيفة، بل نحتاج الان الى ان تتحول مسيرة التعليم باتجاه تخريج طاقات تساهم في إعادة أعمار البلاد، جنبا الى جنب مع عملية الارتقاء بواقع الإنسان العراقي وتلبية متطلبات الدولة المدنية الحديثة القائمة على تكامل الإنسان مع مجتمعه.

من أولى هذه المحاور التي تضمنتها إستراتيجية الوزارة للأعوام 2011- 2014، هو العمل على تحقيق التوسع الأفقي والعمودي في بنية النظام التعليمي العراقي، وبشكل متزامن، يكفل لنا تصحيح المسارات وتوجيه الجهود نحو غاية عظمى جوهرها استعادة البناء الصحيح للإنسان العراقي والدولة العراقية على حد سواء.

فعلى صعيد التوسع الأفقي، بدأنا بتطبيق خطة التوسع في الرقعة الجغرافية للمؤسسات التعليمية لتشمل مدنا عراقية حرمت في عهود مضت من المراكز العلمية الرصينة التي تحتضن طاقات أبناء هذه المدن وتنميها باتجاه خدمة البلاد من أقصاها الى أقصاها.

وكنموذج لهذا النمط من التوسع الأفقي هناك الان جهودا استثنائية للإسراع في تأسيس 15 جامعة جديدة تتوزع على مختلف مدن العراق، ونطمح ان تتمكن هذه المؤسسات التعليمية الوليدة من استيعاب اعداد كبيرة من مخرجات وزارة التربية، وفق خطط تأخذ في الحسبان حاجة العراق الفعلية للتخصصات التي سيتم افتتاحها في هذه الجامعات، وبما يضمن الاستفادة القصوى من البيئة الجغرافية والاجتماعية التي تتفرد بها هذه المدن.

أولى هذه الجامعات ستكون في قضائي الحمدانية وتلعفر التابعين لمحافظة نينوى أقصى شمالي العراق، ثم تطوير الكليات التي تم افتتاحها في مدن محافظة صلاح الدين ورفعها الى مستوى جامعة، كما هو الحال في مدينة سامراء التي ستكون من أهم كلياتها، كلية الصيدلة وصناعة الأدوية.

في ذات الوقت، لدينا نواة جامعة الفلوجة التابعة لمحافظة الأنبار غربي العراق، والتي تعنى بالتخصصات الزراعية وباقي المجالات التي تحتاجها بيئة المدينة وتعتمد على تنمية ثرواتها. فضلا عن كلية للهندسة التطبيقية في منطقة القائم الغنية بالموارد الطبيعية مثل الغاز والفوسفات.

أما في الفرات الأوسط، فسيكون لدينا نواة لجامعة صديقة للبيئة في منطقة القاسم بمحافظة بابل، وجامعة أخرى متخصصة بالنفط والمعادن في منطقة القرنة بمحافظة البصرة التي تعد خزان النفط الرئيسي في العراق. فيما ستكون هناك نواة لكلية ابن حيان في النجف،

ولا تقتصر خطة التوسع الأفقي على الجامعات الحكومية القائمة أو التي ستلتحق بها في المدى المنظور، بل تتعداها الى مديات أوسع قوامها الجامعات الساندة، سواء على مستوى الجامعات والكليات الأهلية التي نعمل على الارتقاء بمستواها التعليمي ودعمها بما يكفل حفاظها على مستوى الرصانة العلمية المبتغاة، أو على مستوى الجامعات العالمية التي نعمل على إصدار قانون يتيح لها فتح فروع لها في العراق، بما يؤمن جهدا علميا رصينا يضاف الى الجهد التعليمي الحكومي العراقي.

وعلى ذات المنهج، شرعنا بتوثيق مجالات التعاون مع وزارة التعليم الكردستانية، لتوحيد الرؤى فيما يتعلق برصانة الشهادات التي تمنحها جامعات كردستان وتبادل الكوادر التدريسية وتحديث المناهج  والمشاركة في عقد المؤتمرات العلمية وإصدار المجلات المحكمة وتبادل الخبرات وتوحيد القاعدة التعليمية التي تشكل جميعها، مطلبا أساسيا للحصول على الاعتمادية الأكاديمية للشهادة الجامعية العراقية في كل دول العالم.

ولا يمكن بطبيعة الحال أن نغفل الإشارة هنا، الى ما بدأنا به من خطوات لتفعيل دور المراكز البحثية التي نريد لها أن تكون خزانات فكرية تقرأ وتحلل وتضع الحلول وتقدم المقترحات، لدعم جهد الدولة العراقية في كل مفاصلها، ورفد الوزارات العراقية بدراسات وبحوث منهجية متطورة وقابلة للتطبيق على ارض الواقع. والغاية من عملية التطوير هو تفعيل دور النخب العراقية وفتح الباب أمامهم على مصراعيه لتحويل بحوثهم الى معطيات تطبق على ارض الواقع بدلا من ركنها على رفوف المكتبات.

تشتمل الخطة الطموحة التي أخذنا على عاتقنا تطبيقها خلال السنوات الأربع القادمة، مراجعة القوانين الناظمة للعملية التعليمية وتطويرها بما يتوافق مع روح التطور، والعمل على تحقيق استقلالية الجامعات بشكل تدريجي، كي تكون قادرة على تطبيق برامجها التعليمية وتحسين مستوى أدائها الإداري وتواصلها بشكل مرن مع المؤسسات التعليمية العالمية في مجالات التوأمة وتحديث المناهج وتبادل الخبرات وتدعيم الرصانة في منح الترقيات العلمية.

خطة الوزارة تتضمن أيضا، مجموعة من الخطوات التي أخذت طريقها الى التطبيق الفعلي ونأمل ان تؤتي ثمارها في مديات زمنية قريبة، مثل تطوير التعليم التقني بوصفه الحلقة الوسطى في العملية الإنتاجية للبلد، وإيجاد آلية لضمان عودة الكفاءات من الخارج، وتفعيل مذكرات التفاهم المعقودة مع الجامعات العالمية، وإيجاد نظام يختصر الروتين في انجاز المعاملات والمراجعات للأساتذة وأصحاب الكفاءات والطلبة، ومعالجة وضع الأقسام الداخلية من خلال تغيير الآلية الحالية وتحويلها الى شركات مختصة، وتوفير سكن وبيئة تليق بالأستاذ الجامعي.

وبحسب الخطة، هناك محاولات جادة لإدخال الجانب الاستثماري في مجال التعليم من خلال توافق مخرجات وزارة التعليم مع القطاع الخاص وسوق العمل، وخلق التوازن الجغرافي والسكاني في البعثات والزمالات الدراسية، وتأسيس شبكة للمعلومات العلمية والأمنية تساعد في الكشف عن التزوير والمخالفات القانونية، فضلا عن ضمان حصة العنصر النسوي من التعيينات في وزارة التعليم وجامعاتها.

إن إطلاق هذه الإستراتيجية التي نشرف على تطبيقها بشكل مباشر، تأتي تلبية للحاجة الى ترسيخ القيم الجامعية الرصينة التي تسعى الوزارة الى تطبيقها في الجامعات العراقية، وتفعيل التواصل الميداني مع المؤسسات التعليمية بما يكفل تجاوز العقبات التي فرضتها الظروف والتحولات التي شهدها العراق خلال العقود الماضية، والإسراع بعملية التطور العلمي لضمان اللحاق بالمستوى التعليمي المتقدم في كثير من دول العالم.

وستراعي هذه الخطة الموسعة، الموازنة بين ما هو موجود فعلا على ارض الواقع في الجامعات العراقية، وبين التطلعات الطموحة التي وضعتها الوزارة نصب عينيها لترصين التعليم العالي في العراق، باعتباره مدخلا أساسيا للارتقاء بباقي مفاصل الدولة العراقية، وساندا فاعلا لعملية بناء الدولة العراقية الجديدة.

علي محمد الحسين الأديب

وزير التعليم العالي والبحث العلمي